قصة : خطبها ابن خليفة المسلمين فـ رفض ابوها و زوجها لـ رجل لا يملك الا درهمين
قال الرجل: حدثني أبو وداعة قال: كنت كما تعلم ألازم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للعلم، وكنتُ أداوم على حلقة سعيد بن المسيب، وأزاحم الناس عليها بالمناكب، فتغيَّبتُ عن حلقة الشيخ أياماً، فتفقدني، وظنَّ أن بي مرضاً أو عرض لي عارض.ـ فسأل عني من حوله فلم يجد عند أحدٍ منهم خبراً، فلما عدتُ إليه بعد أيامٍ حيَّاني، وقال: أين كنت يا أبا وداعة ؟
ـ قلت : واللهِ يا سيدي توفيتْ زوجتي فاشتغلتُ بأمرها.
ـ قال : هلا أخبرتنا يا أبا وداعة فنواسيَك، ونشهدَ جنازتها معك، ونعينَك على ما أنت فيه ؟
ـ قلت : جزاك الله خيراً، وهممتُ أن أقوم فاسْتَبْقَانِي، وقال لي: اجلس ، فجلستُ حتى انصرف جميع مَن في المجلس، ثم قال لي: أما فكّرتَ في استحداث زوجةٍ لك يا أبا وداعة؟
ـ قلت : يرحمك الله ، ومَن يزوِّجني ابنتَه ، وأنا شابٌ نشأ يتيماً ، وعاش فقيراً ، فأنا لا أملك غيرَ درهمين ، أو ثلاثة دراهم.
ـ فقال : أنا أزوِّجك ابنتي.
ـ فانعقدَ لساني وقلت : أنتَ، أتزوِّجني ابنتك بعد أن عرفت من أمري ما عرفت ؟
ـ قال : نعم .. فنحن إذا جاءنا من نرضى دينه وخلقه زوَّجناه، وأنت عندي مرضيُّ الدين والخلق. ثم التفتَ إلى مَن كان قريباً منا، وناداهم، فلما أقبلوا عليه، وصاروا عنده، حمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه محمد صلوات الله عليه ، وعَقَد لي على ابنته ، وجعل مهرها درهمين اثنين.
ـ فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح.
ثم يكمل أبا وداعة سرد قصة زواجه العجيبة:
ـ ثم قصدت بيتي، وكنت يومئذٍ صائماً، فنسيتُ صومي، وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة ، ما لذي صنعته بنفسك ؟ ممّن تستدين ، ممّن تطلب المال ؟
ـ وظللت على حالي تلك حتى أذَّن المغرب، فأدَّيتُ المكتوبة، وجلستُ إلى فطوري، وكانت خبزاً وزيتاً، فما إن تناولتُ منه لقمةً أو لقمتين حتى سمعت الباب يُقرَع، فقلت: من الطارق؟
ـ قال: سعيد.
ـ قال : فوللهِ لقد مرّ بخاطري كلُّ إنسانٍ اسمه سعيد أعرفه إلا سعيدَ بن المسيب ـ استعرض كلَّ إنسان ، لكن لم يخطر في باله إطلاقاً أن يكون الطارق سعيد بن المسيب، ذلك لأنه لم يرَه منذ أربعين سنةً إلا بين بيته والمسجد ـ فتحتُ البابَ فإذا بي أمام سعيد بن المسيِّب ، فظننتُ أنه قد بدا له من أمر زواجي من ابنته شيء ـ أي لعله ندم أو حدثتْ مشكلة ماـ فقلت له : أبا محمد ، هلاّ أرسلتَ إليّ فأتيتك !!
ـ قال له: بل أنت أحق أن آتي إليك اليوم .
ـ قلت: تفضل عليّ .
ـ قال: كلا إنما جئت لأمر .
ـ قلت: وما هو يرحمك الله ؟
ـ قال: إن ابنتي أصبحت زوجةً لك بشرع الله منذ الغداة ، وأنا أعلم أنه ليس معك أحدٌ يؤنس وحشتَك ، فكرهتُ أن تبيت أنت في مكانٍ ، وزوجتك في مكان آخر ، فجئتك بها .
سعيد كره أن يبقى زوجُ ابنته ليلةً وحده من دون زوجته، ومَن ؟ سعيد بن المسيب ؟ ومَن خطبها ؟ ابن أمير المؤمنين ، لمَن زوجها ؟ لأحد تلامذته الفقراء.
ـ فقلت: ويحي جئتني بها ـ لم يكن مستعدًا ـ
ـ قال: نعم.
ـ فنظرت فإذا هي قائمةٌ بطولها، فالتفتَ إليها، وقال: ادخلي إلى بيت زوجكِ يا بنيَّتي، على اسم الله وبركته، فلما أرادت أن تخطو تعثرت بملاءتها من الحياء حتى كادت تسقط على الأرض، أمّا أنا فقد وقفتُ أمامها مشدوهاً، لا أدري ماذا أقول ـ غير معقول هذا الشيء !!
ـ ثم إني بادرتُ فسبقتها إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فنحَّيتُها من ضوء السراج حتى لا تراها ـ خبزة وزيت، لا يوجد غيرها، وهو يتعشى
ـ ثم صعدتُ إلى السطح وناديتُ الجيران فأقبلوا عليَّ وقالوا: ما شأنك ؟ فقلت : عقَدَ لي سعيدُ بن المسيب على ابنته اليوم في المسجد، وقد جاءني بها الآن على غفلة، فتعالوا آنسوها، حتى أدعوَ أمي فهي بعيدة عن هذه الدار، فقالت: عجوزٌ منهن ويحَكَ أتدري ما تقول ؟ أزوَّجك سعيد بن المسيب ابنته ، وحملها لك إلى البيت بنفسه ، وهو الذي ضنَّ بها على الوليد بن عبد الملك ؟! فقلت : نعم ، وها هي ذي عندي في بيتي ، فهلموا إليها وانظروا ، فتوجّه الجيران إلى البيت ، وهم لا يكادون يصدقونني ، ورحّبوا بها ، وآنسوا وحشتها .
ـ وما هو إلا قليل حتى جاءت أمي ، فلما رأتها التفتتْ إليّ ، وقالت : وجهي من وجهك حرام ، إن لم تتركها لي حتى أصلح شأنها ـ ليس هذا معقولاً ، نعتني بها ، ونُلبِسها ـ ثم أزُفُّها إليك كما تُزَفُّ كرائمُ النساء .
ـ فقلت : أنتِ وما تريدين ، فضمَّتْها إليها ثلاثة أيام ، ثم زفَّتْها إليَّ ، فإذا هي من أبهى نساء المدينة جمالاً ، وأحفظ الناس لكتاب الله عز وجل ، وأرواهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعرف النساء بحقوق الزوج.
ـ فمكثتُ معها أياماً لا يزورني أبوها أو أحدٌ من أهلي ، ثم إنّي أتيت حلقة الشيخ في المسجد فسلَّمتُ عليه ، فردَّ علي السلام ولم يكلمني ـ أي لكيلا يحرجني ـ فلما انفضّ المسجد ولم يبقَ غيري قال : ما حال زوجتك يا أبا وداعة ؟ كيف زوجتك ؟
ـ قلت : هي على ما يحبُ الصَّديقُ ويكرهُ العدوُّ .
ـ قال : الحمد لله .
ـ فلما عدتُ إلى بيتي وجدته قد وجَّه إلينا مبلغاً وفيراً من المال، لنستعين به على حياتنا.
ولقد سأل بعض أصحاب سعيد فقالوا له : أتردّ خطبة أمير المؤمنين، وتزوِّج ابنتك من رجلٍ من عامة المسلمين؟
ـ فقال : إنّ ابنتي أمانةٌ في عنقي ، وقد تحرَّيتُ فيما صنعتُه لها صلاح أمرها.
ـ قيل له : وكيف ؟ الرجلُ معه درهمان فقط ، وطعامه خبزة وزيت ، وبيته كوخ ، وخطبها ابن الخليفة، هنا أحسن لها!! .
ـ فقال : ما ظنكم بها إذا انتقلت إلى قصور بني أمية ، وتقلَّبت بين رياشها وأثاثها ، وقام الخدم والحشم والجواري بين يديها ، وعن يمينها وعن شمالها ، ثم وجدتْ نفسها بعد ذلك زوجة الخليفة ـ بعد ما يتولى الحكم - أين يصبح دينها عندئذٍ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تذكر قوله تعالى:
(( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))
-----------------------------------